أزقة بغداد: ذاكرة مكان وسردية حياة

Hussein Najem
المؤلف Hussein Najem
تاريخ النشر
آخر تحديث

 أزقة بغداد: ذاكرة مكان وسردية حياة.

قراءة تكوينية، نفسية ،اجتماعية: لأزقة بغداد من خلال الفوتوغرافيا.

تم نشر هذا المقال في موقع tajreed 

استهلال:

لازالت الصورة الفوتوغرافية تحمل بين جنباتها، ذاكرة تروي قصص، لا تغادر تفصيل من تفاصيل الزمن، وسردية مثيرة لحياة غابرة أو حالية، لأنها وليدة الواقع، كاشفة لمعاني خلاقة، لذا نجدها تسير مع العلوم النفسية والاجتماعية جنباً الى جنب كدلالات سوسيولوجيا (علم الاجتماع) وايكولوجية (علم البيئة) وأنثروبولوجيا (علم الإنسان)، وغيرها من مجالات العلوم الإنسانية.

قراءة تكوينية، نفسية ،اجتماعية: لأزقة بغداد من خلال الفوتوغرافيا


ولهذه القيمة الكبيرة ينظر للصورة كوثيقة تأريخية مهمة لمعرفة حال عيش الإنسان في زمن ما، ودراسة بيئته وخصائصه الإنسانية والتقاليد والأعراف السائدة وقت ذاك.

مقدمة:

تقرأ الصورة الفوتوغرافية حسب معنيين مهمين في النقد الحديث:

·       المعنى الإشاري (Denotation): وهو الوصف المباشر والموضوعي لما تظهره الصورة. أي ما تلتقطه الكاميرا كما هو في الواقع دون تفسير إضافي، ويشمل ذلك الأشخاص والأماكن، وكذلك الأنشطة الموثقة في الصورة.

·       المعنى الإيحائي (Connotation): وهو المعنى الرمزي أو الدلالي الذي يضيفه الإنسان بناءً على خبراته وثقافته، وهو ما يجعل للصورة أبعاداً أعمق تتعلق بالقيم، الأفكار، أو المشاعر التي تثيرها وتجذب المتلقي لها دون استأذان منه.

لذا ستكون هذه القراءة النقدية المقدمة للمصور الدكتور/ حسن شبوط، من خلال أربع سياقات فنية، وتقاربها مع علم النفس والاجتماع.

المستوى الوصفي للصورة:

يتسم العمل بتكوين بصري متوازن، حيث تتوزع العناصر بين المعمارية القديمة على جانبي الزقاق، بينما تبرز لنا في نهاية المشهد كخلفية له وعمق يضاف للعمل، قبة زرقاء مزخرفة بارزة وتعلو المشهد، باعثة على الشعور بالهيمنة والروحانية، أرسلت الإضاءة الطبيعية الذهبية شعوراً بالدفء، وأبرزت تفاصيل الجدران المتأكلة، حيث إنها اضافت معنى حسياً بالحنين والقدم على المكان. لعبت الظلال وكذا الضوء دوراً في توجيه عين المشاهد نحو الرجل الجالس في مقدمة العمل مستمراً نحو القبة في الخلفية بخط قيادي معنوي سلس يربط الإنسان بالمكان.

السياقات الفنية:

1.    السياق الفني: في نظرة أولية يمكن اعتبار هذا العمل جزءً من أسلوب تصوير فوتوغرافي قديم، يركز على الحياة اليومية والمشاهد الحضرية. وهنا صوت يهمس بخفاء لأعمال مصورين وثائقيين اهتموا بتصوير الأماكن والأشخاص في بيئتهم الطبيعية، ك فؤاد شاكر وعبد الرضا عناد وناظم رمزي وغيرهم، ممن وثق الأشخاص في بيئتهم الطبيعية. جمالية هكذا أعمال تكمن في واقعيتها الصارخة، بعيداً عن التنمق أو الأبهار المصطنع.

2.    السياق التكويني: توفرت عدة معايير فنية فوتوغرافية في تكوين العمل حيث نجد الخطوط الأفقية المهيمنة للجدران والأرضية المرصوفة، اعطانا إحساس بالاستقرار والثقل، يقابله الخط المائل لجلسة الرجل (البطل) مما يضفي ديناميكية بسيطة على المشهد، تقابل التوازن الحسي في الصورة والذي يبرز من خلال وجود المتسيد جهة يسار المتلقي يترك مساحة واسعة على اليمين وهذا التقابل الحسي وازن بين طرفي العمل وكان عاملاً ضرورياً لبروز القبة في الخلفية بأريحية وهدوء وكنقطة بصرية لافتة. القبة الزرقاء؛ (اللون الأزرق من الألوان الباردة)، عمل تبايناً مع البيئة الترابية المحيطة بها (اللون الجوزي أو الترابي من الألوان الحارة) هذا التقابل بين اللونين الحار والبارد يمكن تفسيره على أنه حوار بصري بين العابر والفاني (الرجل والمباني المتهالكية) وبين الثابت والروحاني (القبة).

3.    السياق الفلسفي: على المستوى الفلسفي تثير الصورة أسئلة حول الوجود الإنساني وعلاقته بالمكان. الرجل الجالس لوحدة يبدو منغمساً في عالمه الخاص لكنه جزء لا يتجزأ من المشهد الحضري، هناك شعور يتملكه تمثل بالوحدة والعزلة إلا أنه شعور يوحي أيضاً بالانتماء إلى هذا المكان، حتى وإن كان صامتاً. ويمكن ربط هذا الشعور بفلسفات الوجودية التي تتناول موضوعات الوحدة، الحرية, والمسؤولية الفردية في عالم يبدو أحياناً غير مبالٍ. القبة البعيدة من المنظور الفلسفي قد ترمز إلى التسامي الروحي أو إلى بعداً زمنياً أو ثقافياً آخر يتجاوز حدود اللحظة. إذا ما علمنا من ان الإنسان دائماً نظره لجهة عليا، تنقذه أو تنظر اليه بعين الرحمة.

4.    السياق الاجتماعي: الصورة توثق جزء أصيلاً من هوية بغداد القديمة، الأزقة الضيقة، البيوت القديمة والمتهالكة التفاصيل العمرانية التي تحمل آثار الزمن وما فعل بها، القبة الزرقاء المزخرفة في الخلفية ليست مجرد عنصر معماري، بل رمز للروح الدينية والثقافية المتجذرة في المكان، كذلك الجدران المتأكلة ووجود العربة، والأبواب الخشبية، كلها إشارات على حياة يومية بسيطة العيش ومتواضعة، وربما صعوبات اقتصادية، إلا أنها تعبر عن صمود الناس أمام التغيرات والتحولات. كما أن الرجل الجالس قد يكون عابر سبيل، أو ربما من سكان الحي يستريح أو يمضي وقتاً مع ذاته، فالصورة لا تقدم إجابات واضحة، لكنها تثير التساؤلات حول الظروف المعيشية والنسيج الاجتماعي والتأريخ الذي يحمله هذا المكان، فالعمل يشعرنا بالواقعية الاجتماعية، بعيداً عن المثالية للمدن، هو نقل حي وبكل أمانة لما موجود في الشارع والأزقة.

أزقة بغداد: ذاكرة مكان وسردية حياة

الخاتمة:

إن العمل الفوتوغرافي المقدم من قبل المصور حسن شبوط، ليس مجرد لقطة عابرة، بل نص بصري غني بالطبقات المعرفية الفنية والأبعاد الجمالية والمعنى، حيث تدعونا للتفكير في العلافة بين الإنسان والمكان، والفرد والمجتمع، وبين العابر والدائم. وهنا تكمن أهمية الصورة، إذا اثارت لدى المتلقي التساؤل، وحفزت العقل على التفكير والغوص في الجوانب المخفية، والسردية الضوئية التي يتميز بها العمل الضوئي، كحال هذا المشهد الدرامي الذي من خلاله يحكي لنا قصة من قصص بغداد القديمة، ومنحنا فرصة للتأمل في معاني الانتماء والصمود، والجمال المتواري خلف بساطة الحياة اليومية.

 

تعليقات

عدد التعليقات : 0